
ظلال الخوف: رحلة من قيود الرهاب إلى حرية المواجهة
من عالمٍ مليء بالقلق والخوف، جاءت سارة، طالبةٌ في كلية الطب، تستنجد بنفسها بين تيارات الرهاب الاجتماعي وعواصفه. كانت حياتها الجامعية أشبه بحيرةٍ لا تنتهي، وكان كل كلمةٍ وكل سؤال من أساتذتها كان يزيدها ارتباكًا، وتتجمد الكلمات في جوفها رغم علمها بإجابتها. كانت تعيش في معركةٍ صامتة مع نفسها، حيث صوتها الداخلي يخبرها بأنها أقل من غيرها، وأن العالم ينتظر سقوطها.
استمر هذا الصراع طويلاً، حتى أصبح الخوف رفيقها الدائم، والعجز عن المواجهة طيفًا يلاحق خطواتها. كانت درجاتها تتدهور بشكل واضح، حتى تحول حلمها بأن تصبح طبيبة إلى طيفٍ بعيد. واستمر الحال وأصبح القلق يتغذى من أعماقها، وشجرة اليأس نمت في قلبها، لكن رغم هذا كله، كانت هناك رغبة خفية في قلبها للمقاومة والتغيير. جاء يومٌ، وصنعت لحظة فارقة، قررت فيها أن تقتلع جذور اليأس وتنزع عن نفسها غطاء الخوف. توجهت إلى مركز الإرشاد الأسري التابع للعتبة الحسينية المقدسة في فرع النجف الأشرف، علّها تجد بصيص أمل يعيد تشكيل حياتها.
في تلك اللحظة من الحيرة والقلق، استقبلتها دكتورة إسمهان الربيعي، المستشارة النفسية، التي كانت بالنسبة لسارة بمثابة المنقذ. استمعت الدكتورة إلى معاناة سارة بهدوءٍ وفهمٍ عميق، ورأت فيها صورة الإنسان الذي يبحث عن نفسه وسط ضباب الحياة. ثم وضعت لها خطة علاجية سلوكية لم تكن مجرد أسلوب لمعالجة الرهاب الاجتماعي، بل كانت رحلةً عميقة نحو إعادة بناء الذات.
الخطوة الأولى كانت "التداعي الحر"، وهي أسلوب يحرر العقل من قيوده ويطلق العنان للأفكار لتظهر في عفويتها دون أحكام مسبقة. أمرتها دكتورة إسمهان أن تكتب كل ما يطرأ في ذهنها من أفكارٍ ومشاعر، دون أي تدخل. كان هذا تمرينًا صعبًا في البداية، حيث واجهت سارة بحرًا من الأفكار المتناقضة والمخاوف المتشابكة، لكن مع مرور الوقت بدأ ذلك التداعي يكشف لها جوانب من شخصيتها كانت غائبة عن وعيها، ويُظهر لها الخوف الذي كان يظل في قلبها كظلٍ ثقيل، يضيق عليها كلما تحركت.
ثم كانت الخطوة الثانية: "اكتشاف الذات". كانت هذه لحظة تأملٍ عميق في جوهر الإنسان، في الوعي الصحيح بالقدرات الكامنة. كانت دكتورة إسمهان تقود سارة إلى غمراتٍ جديدة من التفكير، تدفعها للتساؤل عن إمكانياتها التي كانت قد دفنتها تحت طبقات من القلق والخوف. في تلك اللحظات، بدأت سارة تكتشف نفسها من جديد، ترى نفسها غير محكومة بقيود الماضي، بل ككائن قادر على النمو والتطور والانطلاق.
أما في الخطوة الثالثة، فقد اجتازت سارة "جدول المواجهة". هنا، لم يكن الحديث عن مواجهاتٍ سطحية، بل كانت معركة حقيقية مع الذات. دعت دكتورة إسمهان سارة إلى مواجهة مخاوفها تدريجيًا، وكسر كل القيود التي كانت تعاني منها. كان عليها أن تختار بين الانسحاب والخوف، أو الاستمرار في تحدي نفسها لتكون شخصًا جديدًا يثبّت قدميه في الحياة. بدأت بمواقف بسيطة، ثم تصاعدت لتشمل مواقف أكبر، مثل الحديث في المحاضرات والمشاركة في الأنشطة الجامعية. وكل خطوة كانت تؤكد لها حقيقة واحدة: أن الخوف ليس إلا عبئًا يفرضه العقل على الإنسان، وأن الإنسان إذا تحرر من قيوده الداخلية، يستطيع أن يواجه كل شيء.
لكن، كما هو الحال في كل رحلة نحو الذات، كانت أصعب خطوة هي "المواجهة". المواجهة هنا لم تكن مجرد تصدي للمواقف الاجتماعية، بل كانت تصديًا للفشل، الذي كانت سارة تخشاه أكثر من أي شيء آخر. لكن دكتورة إسمهان أخبرتها أن الفشل ليس سوى بداية جديدة، وأن الفشل ليس عائقًا بل هو "منبع القوة"، الحافز الذي يساعد الإنسان على اكتشاف إمكانياته الحقيقية. في تلك اللحظات، بدأت سارة تعيد صياغة المفاهيم التي كانت تحكمها وتعيد تشكيل هيكلية ذاتها وفق مسارٍ صحيح.
مع مرور الوقت، بدأت سارة تشعر بتغييرٍ عميق في حياتها. تقلص الخوف، وازدادت الثقة. فكت قيودها، وأصبحت درجاتها تتحسن وعلاقتها بزميلاتها تزدهر. والأهم من ذلك، بدأت سارة ترى العالم بمنظور جديد، حيث أدركت أن الحياة ليست معركة ضد الآخرين، بل هي معركة مع الذات، وأن الانتصار الحقيقي يكمن في تحرير النفس من مخاوفها.
في النهاية، وبعد أن اجتازت سارة سلسلة من التحديات النفسية التي أعادت تشكيل حياتها، توجهت إلى دكتورة إسمهان بالشكر والثناء. من طالبةٍ تعاني من الرهاب الاجتماعي، تخشى التفاعل مع زملائها وتجنب المشاركة في الأنشطة الجامعية، إلى امرأةٍ واثقةٍ بقدراتها، تسعى نحو تحقيق أهدافها الأكاديمية والمهنية بعزيمةٍ وقوة. تعلمت سارة في تلك اللحظة أن كل فشل هو خطوة نحو النجاح، وأن الحياة لا تكمن في تجنب الفشل، بل في تعلم كيف نواجهه والاستعانة بالمستشارين المتخصصين للحصول على الأدوات اللازمة لمواجهة تحديات المستقبل، وكيف نصبح أقوى من خلاله.
: فاطمة الحسيني