image

أوراق الحقيقة في مهب الظنون

بعد أن أرهقتني نوبات الصراخ وأثقلني عبء الصراع الحاد، أدركت أن البقاء داخل دوامة الغيرة والشك ليس سوى موت بطيء للروح، قررت أن أخطو خطوة نحو الخلاص وتحرر قيود الظنون التي كانت تقيدني داخل جدران نفسي. غادر فيه زوجي إلى عمله وجلست بحثت عن نفسي أمام مرآة الحقيقة، أبحث في زواياه عن روحي وبصيص نور يحررني من هذا العذاب الممتد.

ساقتني البحث إلى مركز الإرشاد الأسري في النجف الأشرف، الذي تحتضنه بركات العتبة الحسينية المقدسة، هنا حيث تُروى الحكايات، تُستقبل الأرواح المثقلة بالهموم، وتُنسج الحلول بصبر وعناية. حينما علمت أن هناك مستشارات من النساء، شعرت بأن الجرأة تولد بداخلي، وكأن صوتًا داخليًا يقول: "تكلمي، فالاعتراف هو الخطوة الأولى نحو الشفاء."

كانت المستشارة م.م أنفال سليم في انتظاري رحبت بي بلطف، وما إن استقرت عيناي في عينيها، حتى شعرت أن قلبي المثقل بدأ يبوح قلت بصوت يئن تحت وطأة الحزن:

"لا أدري كيف وصلت إلى هنا، يا أستاذة. كل حديث مع زوجي يتحول إلى خلاف، وكل خلاف يجرني إلى نوبة من بكاء. وحيث الغيرة تلتهمني كالحريق، والظنون دوامة تسبح في نفسي. أراقب كل كلمة يقولها، كل تصرف يقوم به، وأبحث عن دليل لخيانته. أشعر أنني أغرق في بحر من الشك، حتى ظلّه أفتش عنه."

استمعت المستشارة الي بكل هدوء وانصات تام وقالت:

" الغيرة شعور طبيعي، لكنها كالنار إن لم نحكم قبضتنا عليها التهمت كل ما حولها، مشاعركِ مفهومه يا مريم، لكن دعيني أخبركِ أن الغيرة المفرطة ليست سوى قناع يرتديه الخوف. إنها رسالة مشوّشة من قلبك تقول إنك بحاجة إلى أمان لم تجديه بعد."

ثم أضافت وهي تنظر بهدوء لي:

"أول ما يجب عليكِ تعلمه هو أن تهدّئي قبل أن تحرق نيران الغضب روحك يا مريم، الغضب هو وقود يدمر كل شيء في طريقه، بينما الصمت المؤقت هو ماء يطفئ حرائقه عندما تشعرين أن الغيرة أو الظنون بدأت تسيطر خذي هذه الخطوات:

1. ابتعدي عن الموقف فورًا اذهبي إلى مكان آخر حتى لو كان المطبخ لتحضير كوب ماء.

2. تنفسي بعمق ودعي كل نفس يدخل إلى صدرك.

3. اسألي نفسك: هل هذا النقاش معركة أم فرصة للتفاهم؟"

ثم رفعت المستشارة ورقة صغيرة وكتبت عليها كلمة واحدة: "حقائق" وأردفت:

"الظنون هي ظلال الوهم التي ترقص على جدران خوفكِ عندما تجدين نفسكِ تقولين: لماذا لم يرد على مكالمتي؟ لماذا تأخر؟ اسألي نفسكِ: هل لدي دليل حقيقي يدعم هذه الأفكار؟ أم أنني أخلق قصصًا من صنع ظنوني؟ استبدلي الظنون بأسئلة منطقية، وستجدين أن السكينة بدأت تتسلل إلى قلبكِ." التزمت الصمت والتمعن في كلامها وأكملت

"اعلمي أن الغيرة ليست عدوكِ، بل هي رسالتكِ إلى ذاتكِ: أنكِ بحاجة إلى حبكِ لنفسكِ أولًا حينما تشعرين بالغيرة، لا تهاجمي زوجكِ، بل كوني صادقة معه وقولي: أنا أشعر بالقلق لأنني أحبك وأخاف أن أفقدك. هذا الاعتراف سيفتح بينكما جسورًا من التفاهم بدلًا من جدران النزاع." 

ثم سألتني سؤالًا جعلني أنظر إلى أعماق نفسي:

"عندما تشعرين بالغيرة، ماذا تفعلين؟"

أجبت بتردد: "أسأله أين كان ومع من تحدث وإذا لم أصدق، أبحث عن دليل يثبت شكوكي."

هزت المستشارة رأسها وقالت:

"هذا ما يُعرف بدائرة التفكير السلبي كلما زاد شككِ زاد بحثكِ عن دليل وكلما بحثتِ زاد اضطرابكِ. لتحطيم هذه الدائرة:

1. توقفي فورًا عن التفكير في الأمر غيري نشاطكِ إلى شيء يتطلب تركيزًا.

2. ذكّري نفسكِ أن هذه المشاعر ليست الواقع بل هي مجرد خوف داخلي.

3. اسألي نفسكِ: هل ما أظنه حقيقي أم أنه مجرد وهم يجرني للأسفل؟"

ثم ختمت كلماتها بعبارة بقيت تتردد في أعماقي:

"التغيير يا مريم، هو رحلة تبدأ من الداخل عليكِ أن تكوني لطيفة مع نفسكِ، أن تتعلمي أن الحب يبدأ من ذاتكِ قبل أن تعطيه للآخرين وكل خطوة صغيرة نحو السلام مع ذاتكِ، هي خطوة نحو علاقة أعمق وأصدق مع زوجكِ."

خرجت من الجلسة وكأنني أحمل خريطة جديدة للحياة لم تختفِ التحديات، لكني شعرت أنني أملك الآن المفتاح، وأن الحب الذي بداخلي قادر على أن يعيد تشكيل عالمي بنضج وهدوء.

: فاطمة الحسيني