
في عصر الجاهلية، كان لشهر محرّم قدسية خاصة، حيث كانت القبائل العربية تحرّم فيه القتال،وتضع هدنة مؤقتة بين الحروب، وتلتزم بعدم إثارة النزاعات، احترامًا لتقاليدهم، وسعيًا لحفظ الراحة والأمان في المجتمع.
لكن ما جرى في كربلاء هدم كل تلك القيم؛ فقد ارتكب بني أمية بقيادة يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد لعنة الله عليهم أكبر جريمة في شهر محرّم، أخلّت بكل القواعد والعادات التي وُضعت قبل الإسلام، وما بعده من سنن الله.
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ... مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾
التوبة: (36)
ففيه أُريقت الدماء، وتعدّوا على قدسية رسول الله بما جرى على النساء وأطفال بيت النبوة، واشتعلت النيران.
عن الإمام الصادق عليه السلام ": إن شهر محرّم كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا..." (كامل الزيارات)
نظرًا لعظمة مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) وما جرى عليه وعلى عياله، وضع أهل البيت آدابًا خاصة لشهر محرّم، دلالةً على حجم المصيبة وشدّتها، فأصبح شهر محرّم رمزًا حرًا للحسين، وشعارًا ضد الذلّ والعدوان، والاستعداد لمواجهة العدو، ورفض الظلم، وشدّ الهمم والعزائم، وتجديد موسم الحُزن.
فكان للإمام الرضا (عليه السلام) طقوسًا خاصة به عند حلول شهر محرّم، حيث قال: "كان أبي إذا دخل شهر محرّم لا يُرى ضاحكًا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر كان يوم مصيبته..." (الشيخ الصدوق – الأمالي)
ولهذا الشهر مميزات عديدة، من تهذيب النفس، وردعها، وتطهير الروح، والتخفيف من الذنوب والمعاصي. فالحسين عليه السلام هو عبرة وعِبرة، والبكاء عليه ليس حالةً وقتية ، بل هو عروجٌ بالروح نحو الصفاء الإنساني؛ ولذلك أكّد أهل البيت عليهم السلام على إحياء شعيرة الدمع.
عن الإمام الرضا (عليه السلام): "من بكى على مصاب جدّي الحسين عليه السلام، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر."
(عيون أخبار الرضا)
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): "إن يوم الحسين أحرّ قلوبنا، وأسال دموعنا، وأذلّ عزيزنا، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء." (كامل الزيارات)
فشهر محرّم موسمٌ للتوبة وتجديد العهد: يستثمر المؤمن هذا الشهر للعودة إلى الله، فيرتبط بالأمام ارتباطًا يُثمر إصلاح النفس وتزكيتها.
لهذا، كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يحثّون على إحياء شعائر محرّم، بالعاطفة والمنطق، ليكون وسيلة تربوية إصلاحية ترفع النفس من حضيض الشهوات إلى أفق الكمال.
شهر محرّم ليس شهر البكاء فقط، بل هو شهر الأدب مع اللوعة ففي مدرسة سلالة النبوة (عليهم السلام)، الحزن لا يُفلت من الضبط، ولا ينزلق إلى الانفعال المجرد، بل يُترجَم في الوقار، والتأمل، والانكسار لله.
الوقار في السلوك، والهدوء في اللباس، والسكينة في مجالس العزاء، هذه ليست مظاهر خارجية فحسب، بل هي ملامح تربوية حسينية عميقة، تنشئ جيلًا يُدرّب شعوره لا على الانفعال، بل على الانتباه، ويربط الحزن بالمسؤولية، لا بالصوت المرتفع فقط.
فالحزن في فلسفته، نضجٌ للروح، ولبس السواد ليس عادةً موسمية، بل لغة صامتة تقول: إن المظلوم سينتصر، وإن الحقّ لا يُطفأ، وإن كلمة الله ستعلو رغم صراخ الباطل. هو إعلان وفاءٍ لكل دمٍ طاهر سال، ولكل جرحٍ ضحّى من أجلنا.
والتقليل من المزاح والضحك في محرّم، ليس كبتًا للنفس، بل انضباطٌ وجداني، يوقّر الدماء التي سالت، ويُربّي القلب على التوازن بين العاطفة والوعي.
آداب محرّم إذن، ليست أعرافًا اجتماعية، بل ممارسة وجودية تعلّمنا كيف نحزن... وكيف نحيا عبر الحزن، لا به فقط.
فالحسين (عليه السلام) لا يريد دموعًا بلا وعي، ولا حزنًا بلا وُقار، بل يريد روحًا ترتقي بالحزن نحو الإصلاح، ونفسًا تنضج كلّما مرّ بها محرّم.