
"عالم افتراضي... قلب مهجور"
"كانت كل محاولاتي للتقرب منه عبثية، وعلاقتنا تتآكل ببطء، لكنه لم يلحظ هذا الانهيار المستمر، وكأن كل شيء بخير طالما أنه يؤدي دوره ويوفر احتياجاتنا المادية." هكذا بدأت سارة حديثها والخيبة تعتصر قلبها، بينما دموعها تحاول أن تهدئ من ألم روحها.
لم يمضِ على زواجنا عام، حين كانت الألفة تملأ حياتنا، والضحكات تدفئ قلوبنا. لكن مع مرور الوقت، تغيرت الأمور. لم يعد زوجي أحمد ذلك الرجل المتفهم، المنصت، والحنون الذي عرفته... أصبح يقضي معظم وقته في زاوية من المنزل، صامتًا، شارد الذهن، غارقًا في عالمه البعيد عني وعن حياتنا المشتركة. الهاتف سيطر عليه تمامًا، وصارت الأحاديث بيننا شبه معدومة. بالكاد كان يلاحظ ما يجري حوله، وكأن هاتفه أصبح جزءًا من حياته لا يمكن فصله عنها. كان حتى يشاركني وجبات الطعام وهو ممسك به، وكأنه ضيف دائم لا يغادر.
حاولت مرارًا فتح حوارٍ أو نقاشٍ لإخراجه من قوقعته، لكنه كان يعود سريعًا إلى عزلته، وكأن محاولاتي كانت مجرد حلول وقتية لا تدوم. أصبحت أشعر بالغربة داخل بيتي، وصارت روحي تضج بالغضب والوجع، حتى قررت أخيرًا مواجهته بحزم.
بنبرة هادئة ولكن حازمة، قلت له:
"أحمد، هل نحن حقًا نعيش معًا؟ أنا أشعر بالوحدة..."
رد ببرود: "أنا هنا معك يا عزيزتي."
أجبته متنهدة: "لكنني أشعر وكأننا نعيش على قارتين مختلفتين، وهناك خليج عميق يفصل بيننا. سفينتنا تحطمت وكل أملٍ بها غرق."
ثم نظرت إلى الهاتف في يده وقلت: "هذا الهاتف بات حاجزًا بيننا..."
نظر إليّ بانزعاج وقال: "أنت تعرفين أن عملي كله يعتمد على الهاتف، وكل الناس تستخدمه. لماذا أنت قلقة؟"
بدموع متدفقة أجبت: "أنا لا أعارض عملك، ولكن أن يأخذك الهاتف مني ويصبح بديلاً عن حديثنا، عن قربنا... أتذكر كيف كنا في بداية زواجنا نقضي الوقت معًا؟ كنا نتحدث لساعات عن أحلامنا ومستقبلنا. أما الآن، فليس بيننا سوى الصمت."
رد بلهجة جافة: "أنتِ تبالغين، إنه مجرد هاتف، وسيلة لقضاء الوقت. لا داعي لكل هذه الدراما."
في تلك اللحظة، أدركت أنني كنت أصرخ في وادٍ لا صدى فيه، وأنه غير مستعد للاستماع أو التغيير. حاولت بعدها منحه فرصة أخرى، حتى استعنت بنصائح مختصين لإنقاذ زواجنا. ولكن حين اقترحت عليه أن نقضي يومًا واحدًا بدون هاتف، أجاب ببساطة: "لا أستطيع، عملي كله يعتمد عليه."
مرت الشهور، وكنت أشعر بأنني أذوب ببطء، وكل محاولاتي للتقرب منه باتت بلا جدوى. أحمد كان يرى الأمور بمنظور مختلف، يعتقد أنه غير مقصر طالما أنه موجود بالجسد وأن الأمور على ما يرام، لكنه لم يرَ أن روحي كانت تغرق.
في النهاية، لم أعد أتحمل. قررت أن أخطو خطوة حاسمة. كتبت رسالة ووضعتها بجوار هاتفه:
"شكرًا لك من القلب على كل اللحظات التي قضيناها معًا، لكنني لم أعد أستطيع العيش في حياة حيث تأخذ الشاشة مكاني. حاولت مرارًا أن أكون كما كنا، ولكنك اخترت البقاء في عالمك الافتراضي، وأتركك معه ومع مصدر راحتك."
حينها، أدرك أحمد متأخرًا حجم الخسارة التي تعرض لها. فقد شريكة حياته وحبه.
الهاتف نافذة إلى العالم الحديث، ولكن يجب أن نستخدمه بوعي. فلا ينبغي أن يصبح حاجزًا بيننا وبين من نحب. الحياة تحتاج إلى تواصل حقيقي، وعلاقات تتغذى بالعطاء المتبادل والاهتمام.
: فاطمة الحسيني