image


روي عن الإمام اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال:

(إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَراهُنَّ سَبايا)[1].

إنّ عبارة (شَاءَ اللهُ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايَا) نُقلت عن الإمام الحسين عليه السلام أثناء مسيرته إلى كربلاء، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "جاء محمد ابن الحنفية إلى الحسين عليه السلام في الليلة التي أراد الحسين الخروج في صبيحتها عن مكة فقال له: يا أخي إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز مَن بالحرم وأمنعه، فقال: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت، فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد، فقال: أنظر فيما قلت.

فلما كان السحر، ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ بزمام ناقته -وقد ركبها -فقال: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟ قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ما فارقتك فقال: يا حسين اخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا. فقال محمد ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ قال: فقال لي صلى الله عليه وآله: إن الله قد شاء أن يراهن سبايا، فسلّم عليه ومضى"[2].

إن مقولة الإمام الحسين عليه السلام" إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَراهُنَّ سَبايا " تحمل في طياتها معانٍ عميقةً، ودروساً وعِبراً مهمة، نذكر منها درسين مهمين وهما:

1.إنّ للمرأة دوراً في تحقيق النصر.

2.التسليم لمشيئة الله تعالى.

المبحث الأول: دور المرأة في النهضة الحسينية

 إنّ الدرس الأول الذي نستفيده من مقولة الإمام الحسين عليه السلام: " إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَراهُنَّ سَبايا " بعد قوله " إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلًا " هو أن للمرأة دوراً فعالاً في نصرة الدين وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يقلّ شأناً عن الرجل.

بعبارة أخرى، كأنما الإمام الحسين عليه السلام يقول: مثلما لي القدرة على الاستعداد لمواجهة الموت والتضحية بكل ما أملك من أجل تحقيق الحق والعدل الإلهي، كذلك فإنّ للنساء القدرة على مواجهة الصعوبات كالسبي والأسر من أجل تحقيق نفس الهدف.

وحينما نُسلط الضوء على الأدوار التي مارستها عيالات الإمام الحسين عليه السلام

في النهضة الحسينية، سنجد أن للنساء أدواراً عظيمة، -وبالأخص أدوار عقيلة بني هاشم عليها السلام-، ومنها دورهنّ في الدعم النفسي والمعنوي، والتضحية بالأبناء والأزواج، والدور في المحافظة على البقية الصالحة، وفي إحياء الشعائر الحسينية، وفي المحافظة على المبادئ والقيم، والدور الإعلامي، والدور النيابي ..إلخ، وكل واحدة من هذه الأدوار يحتاج بيانها إلى محاضرة، ولكن هنالك دور آخر ويعدّ الدور الرئيس والأساس من بين كل الأدوار، ألا وهو دور الأسر والسبي، حيث تبدو فيه المشاركة الحقيقية للمرأة في النهضة الحسينية، بحيث تحمَّلت القسط الثاني منها في مواجهة الظلم والطغيان من ناحية، وفي تحقيق الأهداف التي كان يسعى لها الإمام الحسين عليه السلام من ناحية أخرى.


فما جرى على الإمام الحسين عليه السلام وعلى أهل بيته وأصحابه من محن ومصائب وآلام وقتل ومُثلة، يمثل جانباً من الجريمة الوحشية المروعة التي اهتزت لها حتى الضمائر المريضة أو الميتة، وتكشّفت بها الحقيقة المُرّة في طغيان يزيد وانحراف حكمه، وما جرى على العقيلة زينب عليها السلام ونساء وبنات الحسين وأصحابه، الذين تعرضوا للأسر والسبي وهتك الحرمات، يمثل الجانب الآخر من هذه الجريمة في فضاعته ووضوحه وآثاره الروحية والاجتماعية، فقد تحمّل هؤلاء النسوة والأطفال القسط الثاني من الآلام والمصائب.

 ومن الممكن القول إنه يساوي القسط الذي تحمله الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.

ففاجعة كربلاء العظمى لها عِدلان رئيسيان يكمّل أحدهما الآخر، وهما:


#عِدل القتل والتمثيل والهتك لحرمة هذه الصفوة من أبناء الأمة، وعلى رأسهم الإمام الحسين ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل بيته وصحبه الكرام.[3]

 

#عِدل السبي والأسر والهتك والاستهتار بحرمات هذه النسوة اللاتي يمثلن حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام[4].

ولتوضيح العِدل الثاني لفاجعة كربلاء، لنقف على المعاناة التي تعرّض لها سبايا أهل البيت عليهم السلام في النهضة الحسينية والتي سنطرحها في المطلبين الآتيين:


المطلب الأول: معاناة سبايا أهل البيت عليهم السلام


لقد تعرضت بنات الوحي والرسالة والأطفال أثناء رحلة السبي إلى العديد من المصائب والرزايا والخطوب التي تنهدّ لهولها الجبال، فلا بد من الوقوف عليها لنتمكن من كشف الأقنعة المزيّفة عن وجوه الأعداء، لنميّز الحق عن الباطل، ونذكر منها الآتي:


1.السبي: لقد ذكر أرباب المقاتل وأصحاب السير أنه بعد انتهاء المعركة، تم أسر النساء والأطفال من عائلة الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه. وقد حُملن كأسرى على نِيَاقٍ هُزْلٍ بِغَيْرِ غِطاءٍ ولا وِطاءٍ، وساقوهنّ كما يُساق سَبيُّ الترك والروم من كربلاء إلى الكوفة ومن ثم إلى الشام.

قبل أن نكمل البحث لا بدّ من الوقوف على عبارتين:

 

العبارة الأولى: إن النساء حملن على (نِيَاقٍ هُزْلٍ بِغَيْرِ غِطاءٍ ولا وِطاءٍ)[5]، ومعناهما كالآتي:

(نِيَاقٍ هُزْلٍ): "نياق" هي جمع "ناقة"، وهي أنثى الجمل. " هُزْلٍ" تعني ضعيفة أو نحيفة. وهذا فيه إشارة إلى أنّ النوق التي حملت عليها النساء كانت ضعيفة وغير قادرة على التحمل بشكل جيد.

(بِغَيْرِ غِطاءٍ): "غطاء" تعني شيء يستخدم لتغطية وحماية النساء أثناء الرحلة، وقد يكون كناية عن "المحمل" وهو الهودج أو الحماية التي توضع على ظهر الناقة لتوفير بعض الخصوصية والراحة للراكب. "بغير غطاء" وهذا يعني أنهن كنّ بدون أي وسيلة حماية أو هودج يحميهن من التعب والظروف الجوية القاسية.

 

(ولا وِطاءٍ): "وطاء" تعني فراش أو وسادة تُوضع على ظهر الناقة للجلوس عليها. "ولا وطاء" يعني أن النساء لم يكن لديهن أي فراش أو وسادة ليجلسن عليها، مما جعل الرحلة أكثر إيلامًا وصعوبة.

 

العبارة الثانية: (وساقوهنّ كما يُساق سَبيُّ الترك والروم).[6]

يُفهم من كلمة(ساقوهن) أنهم أُخذوا النساء عنوة وبالإكراه، وبطريقة بشعة حتى أنّ العقيلة عليها السلام حاججت الملعون يزيد قائلة: (أمِن العَدِل ـ يا ابنَ الطُّلقاء ـ تَخديرُكَ حرائرَك وإماءَك، وسَوقُكَ بناتِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله سبايا).[7]

 (انتبهوا: فهي لم تقل: "وسبيُك" بل قالت: "وسَوقُكَ"؛ لأنها تريد أن تبين طريقة السبي الحقيرة التي كان يمارسها الجلاوزة مع بنات الوحي والرسالة ..

(فالسوق: يقال: ساق الماشية يسوقها سوقاً: حثها على السير من خلف .. وذلك يعني: الحث على السير من الوراء مع عدم الاحترام).[8]

إنّ أسر وسبي عيالات وحرم رسول الله صلّى الله عليه وآله جريمة من أعظم الجرائم، وقد كان لهذا العمل الإجرامي تأثير كبير جداً على وعي المسلمين.

ففي الفقه الإسلامي يوجد حكمٌ يتعلق بالبغاة [9]، وهو أن الباغي يجوز قتله، ولكن تبقى عيالاته إذا كان مسلماً في مأمن من الأذى، فلا يجوز أن تُأسر، أو تصبح غنائم[10]، وبهذا تفترق نساء وأطفال البغاة عن نساء وأطفال الكفار، فإن عيالاتهم يتحولون إلى سبايا، ورجالهم يتحولون إلى أسارى، وأموالهم تتحول إلى غنيمة.

وأول من بيَّن هذا الفرق في الحكم هو: الإمام علي عليه السلام في أعقاب حرب الجمل، عندما طلب بعض المقاتلين منه تقسيم الغنائم التي استولوا عليها بعد المعركة بينهم، فرفض عليه السلام ذلك، وكان جوابه قوياً وشديداً، فبعد أن نهاهم ونهرهم عندما ألحّوا عليه، أجابهم: "من يقبل منكم أن تكون غنيمته أمه عائشة!" -باعتبار أن عائشة أم المؤمنين وكانت من جملة الأسارى-فوجدوا أن الإجابة صحيحة، فمن يقبل أن تكون غنيمته أمه، حيث قال عليه السلام: (... يا أخا بكر، أما علمت أن دار الحرب يحلّ ما فيها، وأن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق، فمَهلاً مهلاً رحمكم الله، فإن لم تصدّقوني وأكثرتم عليّ -وذلك أنه تكلّم في هذا غير واحد-فأيّكم يأخذ عائشة بسهمه؟! فقالوا: يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا، وعلمت وجهلنا..)[11] .

ففهموا أن الحكم الشرعي بالنسبة إلى بغاة المسلمين، يختلف عن الحكم الشرعي بالنسبة إلى الكفار. والمسلمون بكل مذاهبهم وطوائفهم يلتزمون بهذه الفتوى، ويقبلون هذا الحكم الشرعي.[12]


ولكن في كربلاء نجد أنّ الجلاوزة الأمويين لعنهم الله قد سلكوا سلوكاً آخر، حيث أنهم اعتبروا الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه(بغاةً) رغم أنهم أئمة الدين، وعلى فرض أنهم كما يقولون، فالإسلام لا يجوّز أذية عيال البغاة فضلا عن سبيهم وأسرهم، ولكن الطواغيت الجبابرة قاموا بسبي وأسر حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وعيالات أصحاب الحسين عليه السلام وأولاده، كما قاموا بنهب أموالهم، واعتبروها غنائم حرب!

وهذا ما نراه واضحاً في أسرهم وتسييرهم من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام على نياق عجاف، ونهب مخيمهم وحرقه، ولم يكتفوا بذلك حتى أوغلوا في الجريمة.[13]


2.هتك حرمات الرسالة: إنّ بنات الوحي والرسالة معروف عنهن أنهن بلغن القمّة في العفة والحياء، يقول المامقاني عن العقيلة عليها السلام في تنقيح المقال[14]: "هي في الحجاب والعَفاف فريدة، لم يَرَ شخصَها أحدٌ من الرجال في زمان أبيها وأخوَيها إلى يوم الطفّ". ولكن تلكم الطاهرات تعرضن لهتك حرمتهن حيث يروى أنّهم (نهبوا رِحالَهُنّ وسلَبوا أغلب ما عليهنّ من الأردية التي يَستَترنَ بها، فصارَت الواحدةُ منهنّ تلوذ بالأخرى، وصِرنَ يَستُرنَ وجوهَهُنّ بأيديهنّ من نظرات طَغامِ جيش ابن سعد ... ، وساقوهنّ كما يُساق سَبي الترك والروم، حتّى إذا اقترب بهنّ الحادي من الكوفة، وخرج أهل الكوفة ينظرون إلى موكب السبايا، صرخت بهم إحدى المخدّرات: غُضُّوا أبصارَكُم عنّا! ألا تَستَحْيون من اللهِ ومن رسولِه أن تنظروا إلى حَرَمِ رسولِ الله وعيالاتِه ؟!)[15].


3.التعذيب النفسي: من أبشع المشاهد المؤلمة التي تعرضت لها عائلة الإمام الحسين عليه السلام أثناء السبي هو تعمّد رفع رؤوس الشهداء على الرماح أمام النساء والأطفال طوال الطريق كنوع من الترويع والاحتفال بالنصر، ولقد مات على أثر هذه الصدمة بعض الأطفال كالسيدة رقية بنت الإمام الحسين عليهما السلام.


4.معاملة العبيد والإماء: إنّ النساء والأطفال من نسل النبي محمد وآله عليهم السلام بدلاً من أن يُكرموا فقد عوملوا كأنهم عبيد وإماء، حيث تلقّوا الأوامر من قِبل يزيد أن يعاملوا النساء والأطفال بمنتهى القسوة والفظاظة، فقادوهم بالحبال والسلاسل، وانهالوا عليهم ضرباً بالسياط، وأسمعوهم الكلام القبيح، وفوق ذلك لم يُسمح لهم بإظهار مشاعرهم أو البكاء بشكل علني، بل إنّ أي محاولة للتعبير عن الحزن كانت تُقابَل بالقسوة والإهانة، ولم يسمحوا لهم بالاستراحة اللازمة من أتعاب الطريق ومشاقّه وصعوباته.


5.الحرمان من الطعام والماء الكافي: أثناء الرحلة من كربلاء إلى الكوفة، ثم إلى الشام، تم حرمان أهل البيت من الطعام والماء لفترات طويلة، ولا يعطونهم إلا القليل، مما زاد من معاناتهم الجسدية والنفسية. وبهذا الصدد يروى عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: (إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة الى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليالِ لأنها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة)[16].


6.استعراضهم أمام رؤوس الطواغيت: عند وصولهم إلى الكوفة، أُجبروا على الوقوف أمام عبيد الله بن زياد (لع)، حيث تعرضوا للإهانات والاستجوابات القاسية. وفي الشام، أُدخلوا على يزيد بن معاوية، الذي تعامل معهم باستعلاء وسخرية.

7.السجن: فقد سجنوهم في المنازل-الأماكن- التي يقفون عندها أثناء السبي، وآخرها كان بعد وصولهم إلى الشام، فلقد ذكرت بعض الروايات مواصفات خربة الشام بأنها كانت بلا سقف ومتداعية الجدران حتى أنَّ السبايا من أهل بيت النبي ص قالوا: إنما جُعلونا في هذه الدار لتقع علينا،[17] وفي رواية المنهال بن عمرو أنه سأل الإمام السجاد عليه السلام -عندما التقى به في الشام- عن حاله فشكى له الإمام عليه السلام ما هم عليه من حال، ثم قال عليه السلام له: المحبس الذي نحن فيه ليس له سقف والشمس تصهرنا به ولا نرى الهواء،[18] ونقلت روايات أخرى أنَّ الخربة ما كانت تقيهم لا من حر ولا من برد حتى تقشرت وجوههم.[19]


وهنالك مصائب أخرى تعرضوا لها أثناء الأسر والسبي وبالأخص في الشام، حيث روي إنّه سُئل الإمام السجّاد عليه السلام: أين كان أصعب المصائب التي مرّت بكم في سفر كربلاء؟

قال عليه السلام: ثلاثاً: الشام، الشام، الشام، أو قال عليه السلام: الأمان من الشام[20].

ولتوضيح ذلك نذكر ما روي عن الإمام السجاد عليه السلام، قال لنعمان بن منذر المدائني: حلّت بنا سبع مصائب في الشام منذ بداية الأسر وحتّى الأخير، لم تحلّ مثلها علينا قطّ:

1-لقد أحاط بنا الظلمة من كلِّ جانب في الشام بسيوفهم ورماحهم وأخذوا يضربوننا به وسط حشود الناس.

2-وجعلوا رؤوس الشهداء في هوادج نسائنا وجعلوا رأس أبي سيّد الشهداء عليه السلام وعمّي العبّاس تحت مرأى عين الحوراء زينب وأمّ كلثوم عليهما السلام ورأس أخي عليّ الأكبر وابن عمّي القاسم تحت مرأى عين سكينة وفاطمة، حتّى أنّهم أخذوا يتقاذفون بالرؤوس المطهّرة بها ويلعبون وكانت تسقط على الأرض أحياناً تحت حوافر الخيول.

3-لقد قذفت النساء الشاميات الماء والنّار من فوق السطوح على رؤوسنا، وقد سقطت النّار على عمامتي ولم أستطع إزالتها لأن يدي كانت مقيّدة بالسلاسل فأحرقت النّار عمامتي ورأسي أيضاً.

4-لقد أشيع الرّقص والغناء في الأزقّة منذ طلوع الشمس وحتى الغروب ومرّوا بنا بأزقة الشام وشوارعها وأسواقها وسط عيون الشاميين وأخذوا ينادون: أيّها الناس اقتلوا هؤلاء الخوارج فدمهم مهدور في الإسلام.

5-وقد وثقونا بالحبال وعبروا بنا بيوت اليهود والنّصارى، وقالوا لهم: هؤلاء الذين قتلوا آباءكم في خيبر والخندق وهدموا بيوتكم، فاليوم انتقموا منهم.

يا نعمان فما بقي أحد منهم إلا وقد ألقى علينا من التراب والأحجار والأخشاب ما أراد.

6-لقد عرضونا في سوق النخاسين وأرادوا أن يبيعونا تحت عنوان عبيدٍ وجوارٍ لكن الله لم يقدّر لهم ذلك وحفظنا من كيدهم.

7-ووضعونا في مكان لا سقف فيه وكنّا نتعرض للحرّ الشديد في النهار والبرد في الليل وانتابنا الخوف والجوع والقلق[21].


نعم، (لقد واجه هذا الركب المقدّس سيلاً من الرزايا والخطوب، ولولا حضور الإمام السجاد والسيدة زينب وبقية حرم رسول الله عليهم السلام -أي لو كان أهل هذه القافلة غير أهل بيت النبوة-لانهارت وانفرط عقدها، لعظيم المحن التي انهمرت عليهم، غير أنّ هذه الثلّة المؤمنة صبرت وصمدت أمام العواصف الأمويّة الهوجاء وكانت كالجبل الشامخ لتبدّد أحلام الطغاة وتشتّت كلّ تلك العواصف وتمتصّ عظيم الفتن والابتلاءات بكلّ شجاعة وبسالة وإيمان)[22].



المطلب الثاني: الآثار المترتبة على تحمّل المعاناة


السؤال المطروح هو: ماذا ترتّب على حضور عقيلة بني هاشم وبقية النسوة عليهن السلام في واقعة الطف وتعرضهن لكل أنواع المصائب والرزايا التي ذكرناها أثناء الأسر والسبي؟


الجواب: إنّ حضور عقيلة بني هاشم وبقية النسوة عليهن السلام في واقعة الطف وتعرضهن للمصائب والرزايا والخطوب العظيمة أثناء الأسر والسبي، يترتب عليه الآتي:

إن الأعداء الكفرة الذي استولوا على الخلافة كانوا ينادون في المحطات التي يقفون فيها أثناء سبي عيال الإمام الحسين وأهل بيته: (هؤلاء سبايا من الخوارج)، أي خرجوا عن الإسلام لأنهم خرجوا على خليفتهم يزيد، في حين أن بنات الوحي والرسالة والإمام السجاد عليهم السلام أثناء سبيهم كشفوا الحقائق للناس من خلال أقوالهم وخطبهم بأنهم ليسوا سبايا من الخوارج وإنما سبايا من آل محمد المؤسسين لدين الله، وأن الخارج عنهم -يزيد واتباعه-هم الخوارج.

 

أولاً: إنّ سبي بنات الوحي والرسالة عليهن السلام ومنهن المرأة الجليلة عقيلة بني هاشم -التي جدّها سيد الرسل وأبوها سيد الوصيين وأمّها سيدة النساء وأخوها سيد شباب أهل الجنة- بتلك الصورة المفجعة المحرقة للقلب سيثير الأحزان والأشجان في نفوس المسلمين ويكشف أسرار الأمويين ويسقط الأقنعة المزيّفة عن وجوههم القبيحة ويتّضح واقعهم المنحط للقاصي والداني ويُظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل ويوضح للمسلمين في كل مكان وزمان أنّ الأمويين من ألدّ أعداء الإسلام، يبطنون الكفر والإلحاد ويتظاهرون بالإسلام رياءاً ودجلاً ونفاقاً.


ثانياً: إنّ إحضار زينب عليها السلام لتعيش واقعة الطف عن حسّ سيجعلها وسيلة إعلامية تحكي ما شاهدته من ظلم وجَور من حكومة بني أمية تجاه البيت النبوي. فالمترقَب من زينب عليها السلام أنها ستفضح تلك الحكومة الغاشمة وسترفع اللثام عن وجه تلك الحكومة، ذلك اللثام الذي اتخذه بنو أمية لستر معايبهم وعدائهم للإسلام الأصيل[23]، وقد أشارت إلى ذلك العقيلة الكبرى في قولها ليزيد بن ميسون في مجلسه بقصر الخضراء: (فوَاللهِ ما فَرَيتَ إلاّ جِلْدَك، ولا جَزَزْتَ إلاّ لحمك([24].

لقد حمل الإمام الحسين عليه السلام النساء والأطفال معه وهو على يقين بأن الأمويين سيطوفون بهم في البلدان إلى أن يصلوا بهم إلى عاصمتهم الشام وسيراهم كل إنسان مكشّفات الوجوه وفي أيديهم الأغلال والسلاسل، وأكثر الناس سيقابلون ذلك بالنقمة على الأمويين والأسف والحزن لآل بيت نبيهم الذي بُعث رحمة للعالمين.

وفعلاً تذكر لنا كتب السيرة والمقاتل مواقف عديدة، منها ما يذكره أبو مخنف بأنهم مروا بهم بمدينة تكريت وكان أغلب أهلها من النصارى، فلما اقتربوا منها وأرادوا دخولها اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزناً على الحسين وقالوا: إنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم فلم يجرؤوا على دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها في البرية.

وهكذا كانوا يقابَلون بالجفاء والإعراض والتوبيخ كلما مروا بدَير من الأديرة أو بلد من بلاد النصارى، وحينما أشرفوا على مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم: والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد أن منعتم الحسين وأصحابه منه، واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين: (أكفراً بعد إيمان وضلالاً بعد هدى!)، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم 26 فارساً ولم تستقبلهم سوى مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة فدُقت الطبول وقدّموا لهم الطعام والشراب.

وجاء عن سبط بن الجوزي عن جدّه أنّه كان يقول: ليس العجب أن يقتل ابن زياد حسيناً وإنّما العجب كل العجب أن يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ويحمل نساءه سبايا على أعقاب الجمال.


نعم، لقد رأى الناس في السبايا من الفجيعة أكثر مما رأوه في قتل الحسين وهذا ما أراده الحسين عليه السلام من الخروج بالنساء والصبيان، ولو لم يخرج بهن لما حصل السبي الذي ساهم مساهمة فعالة في الهدف الذي أراده الحسين من نهضته وهو انهيار تلك الدولة الجائرة.


ولو افترضنا أنّ السيدة الكبرى زينب -بنت علي وفاطمة- عليها السلام بقيت في المدينة وقُتل أخوها في كربلاء فما عساها تصنع!، وأيّ عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب وإقامة العزاء؟، وهل كان يتسنى لها الدخول على ابن زياد لتقول له بحضور حشد من الناس : (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد وطهّرنا من الرجس تطهيرا، إنما يُفتضح الفاسق و يُكذّب الفاجر و هو غيرنا، ثكلتك امك يا ابن مرجانة) ، و هل كان بإمكانها أن تدخل مجلس يزيد في قصر الخضراء و هو مزهوّ بمُلكه وسلطانه وتُلقي تلك الخطب التي أعلنت فيها فسقه و فجوره ولعنت فيها آباءه وأجداده وقالت له فيما قالت: (أمِن العدلِ، يا ابنَ الطُّلَقاء، تخديرُك حَرائرَكَ وإماءَك وسَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ؟! تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف! ليس معهنّ مِن رجالهنّ وَليّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَمِيّ،... (وقالت) ... ولئن جَرَّت علَيّ الدواهي مُخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قَدْرَك، وأستَعظمُ تَقريعك، واستكبر توبيخك!! ..)، إلى غير ذلك من كلماتها التي كانت تنهال عليه كالصواعق وغيرّت اتجاه الرأي العام نحوه ونحو بيته مما اضطره [25]إلى إرجاع السبايا إلى المدينة.


المبحث الثاني: التسليم لمشيئة الله تعالى


 إنّ الدرس الثاني الذي نستفيده من مقولة الإمام الحسين عليه السلام: " إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَراهُنَّ سَبايا" هو التسليم لمشيئة الله، فهذه العبارة تعكس روح التسليم والاستسلام الكامل لمشيئة الله، حيث يُظهر الإمام الحسين عليه السلام استعداده لقبول ما كتبه الله له من الأقدار، ولو كان عسيراً ...

إنّ تسليم الإمام الحسين عليه السلام لأمر الله ومشيئته يدّل على أنه بلغ أعلى درجات الإيمان؛ لأن التسليم من أركانه -الإيمان-، قال الإمام الرضا عليه السلام: "الإيمان أربعة أركان: التوكل على الله عز وجل، والرضا بقضائه، والتسليم لأمر الله، والتفويض إلى الله"[26].

 فقبول الإمام الحسين عليه السلام بقتله هو أهون عليه من صحبة النساء والأطفال إلى كربلاء مع علمه بما سيجري عليهم، ولكنه رضي بذلك لأن الله تعالى أراد ذلك [27]، وهذا الأمر فعله نبي الله إبراهيم عليه السلام حينما أمره الله بترك زوجته هاجر مع ولده إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، فقال: [ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] [28]، بل حتى أن بعض النسوة قبلن أن يتعرضن للأذى من أجل التسليم لمشيئة الله تعالى، (فمريم قد تعرّضت لوظيفة حمل النبي عيسى عليه السلام من غير أب، لتتحقّق المعجزة الإلهيّة لإثبات نبوّة عيسى عليه السلام، وبِعثته بشريعة جديدة ناسخة لشريعة موسى عليه السلام، مع أنّ تحقيق المعجزة هذه كان يخاطر بسمعة مريم وعِرضها إلى درجة مواجهة بني إسرائيل لها بالقذف والبهتان، ولكن كل ذلك لا يعنى ابتذال وتدنيس مريم بل غاية الأمر إهانة عِرضها، فتحمّلت المسؤولية الإلهيّة وأعباء المعجزة والرسالة الجديدة، مع أنّها أصعب من الجهاد بالنفس والقتل بالسيف للإنسان الغيور، وبالنسبة للمرأة العفيفة التي أحصنت فرجها ؛ ولذلك قالت: [يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا] [29]، ولكن جهادها وتحملها أقام الحجّة على كفّار بني إسرائيل ، فجعلها الله تعالى آية حجّة تشارك ابنها النبي عيسى عليه السلام في الحجّية)[30].

وحينما نأتي إلى عقيلة بني هاشم نجدها لا تقل شأناً عن السيدة مريم عليها السلام في التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى -بل قد تكون قد تفوقت عليها- لأن السيدة مريم عليها السلام لما بُشّرت ربما استنكرت الأمر ابتداءً : [قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ][31] ، في حين أن السيدة زينب عليها السلام لما حان وقت الابتلاء لم تستنكر، بل ولم تستفسر عن السبب، فهي لم تقل لأخيها سيد الشهداء -بعدما عرفت بذلك-: ( هل يُعقل أن أسبى وأنا العقيلة المخدّرة الطاهرة بنت الوحي والرسالة؟!! )

بل يروى (لمّا اطّلعت السيدة زينب عليها السلام على عزم أخيها الإمام الحسين عليه السلام اضطربت اضطرابا شديداً خوفاً من أن يمنعها زوجها وابن عمها عبد الله من مصاحبتها لأخيها، ولذلك جاءت الى ابن عمها عبد الله، مسرعة وهي باكية تقول له: يا ابن العم هذا الإمام الحسين عليه السلام أخي وشقيقي قد عزم على المسير إلى العراق، وأنت تعلم علاقتي به، ومحبتي له، وعدم صبري على فراقه، وحيث أن النساء لا يجوز لهن السفر ولا الخروج من البيت إلا برضى أزواجهن، جئت إليك اطلب منك الإذن في السفر مع أخي الإمام الحسين عليه السلام، فإن لم تأذن لي بذلك امتثلت أمرك وانتهيت بنهيك ولم أذهب معه، ولكن كن على علم بأني لو لم أذهب معه لما بقيت بعده في الحياة إلا قليلا.

وما أن تمّ كلام السيدة زينب عليها السلام وانتهى استئذانها حتى سالت دموع ابن عمها عبد الله على خدّيه، وأجهش بالبكاء حيث أنه لم يعُد يتمالك نفسه لمّا رأى السيدة زينب عليها السلام قلقة مضطربة هذا الاضطراب الشديد، ووجِلة ومنقلبة هذا الانقلاب العجيب، بحيث أنه لو واجهها بكلمة: لا، فارقت الحياة من شدّة الصدمة وماتت من حينها، ولذلك، ولما ورد: من أن أمير المؤمنين عليه السلام لمّا زوّج ابنته زينب عليها السلام من ابن أخيه عبد الله بن جعفر، اشترط عليه في ضمن العقد أن لا يمنعها متى أرادت السفر مع أخيها الحسين عليه السلام.

قال لها: يا بنت المرتضى، ويا عقيلة بني هاشم، نهنهي عن نفسك، وهوّني عليك، فإني لا أجهل علاقتك ولا أنسى مواقفك فافعلي كيف شئت، وحسبما تحبّين، فإني عند رأيك، وأمر ابنيه عوناً ومحمداً بالمسير مع الحسين عليه السلام، والملازمة في خدمته، والجهاد دونه.

فسرّت السيدة زينب عليها السلام من موقف ابن عمها عبد الله تجاهها وشكرته على ذلك، ثم ودّعته وغادرت بيته لتلتحق بأخيها الإمام الحسين عليه السلام.

ولمّا تراءت السيدة زينب عليها السلام للإمام الحسين عليه السلام من بعيد، وكان الإمام عليه السلام يترقب مجيئها وينتظر قدومها، استقبلها بكل حفاوة وقد اغرورقت عيناه بالدموع، ورحّب بها كل ترحيب، ثم ضمّها إلى موكبه بغاية من التبجيل والاحترام، وعاملها بما لم يعامل به أحدا ممن معه من النساء غيرها، مما يدل على جلالة شأنها، وعظيم منزلتها عند الله ورسوله وعند إمامها -الإمام الحسين عليه السلام-)[32].

فلذا لا غرابة لما نسمع من بعض علمائنا كالدربندي في كتابه (أسرار الشهادة) وغيره أنها (صلوات الله عليها) أفضل من مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وغيرهما من فضليات النساء.

إنّ مواقف العقيلة عليها السلام في كل حياتها تُثبت بأنها قد بلغت أعلى درجات الإيمان والتسليم والانقياد لتنفيذ المشيئة الإلهية، ومنها أن تكون مسبيّة لتؤدي دورها العظيم في تلك الرحلة التي هدفها نصرة دين الله وتحقيق الغاية التي خُلقنا من أجلها وهي: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ][33].


إنّ لسان حال العقيلة هو ما قاله الإمام الباقر عليه السلام، نحن قوم "ندعو الله فيما نحب، فإذا وقع الذي نكره لم نخالف الله عز وجل فيما أحب"[34].


وهذا هو قمّة التسليم والانقياد لأمر الله تعالى كانقياد نبيي الله إبراهيم واسماعيل عليهما السلام لأوامره تعالى، قال الله سبحانه: [قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ] [35].

فالعقيلة عليها السلام لم تسلّم أمرها لله تعالى في قضية الأسر والسبي فقط، وإنما حتى في تحقيق مشيئة الله تعالى بشهادة الإمام الحسين عليه السلام حينما قال له الرسول صلى الله عليه وآله: (إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلاً)، وهنالك مواقف عديدة تُثبت ذلك منها موقف تقديم جواد المنية للإمام الحسين عليه السلام.... فحينما رأت أن كل أصحاب إمامها وأهل بيته وأولاده قد قُتلوا وصرّعوا وبقي وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين، يحيط به آلاف الأعداء، ورأت أن أخاها أراد أن يتقدم إلى القتال نظر يمينا وشمالا ونادى: ألا هل من يقدم لي جوادي!!

فهنا لم تسمح لعاطفتها أن تتغلب على تنفيذ مشيئة الله تعالى، بل داست على قلبها الموجوع وهي تنزف دماً لتمسك بيديها عنان جواد الإمام الحسين وتقدّمه إليه وهي تقول: لمن تنادي، وقد قرحت فؤادي. 

وفي بعض المصادر أنها قالت: أيُّ أختٍ تقدم لأخيها جوادَ المنية؟

 أي أنها تعرف أنه جواد المنية ومع ذلك قدّمته، أي قدمت له الوسيلة التي يذهب بها إلى الموت؛ لأنها أرادت أن تحقق المشيئة الإلهية (شاء الله أن يراني قتيلا )...


بعد هذا البيان وجب أن نأخذ درساً مهماً من هذه المقولة العظيمة "شاءَ اللهُ أنْ يَراني قَتيلًا.. وشاءَ اللهُ أنْ يَراهُنَّ سَبَايا"، وهو أن نؤدي تكليفنا بأن نحقق المشيئة الإلهية بالتسليم لأوامره وأحكامه بالطاعة المطلقة له، قال تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ] [36].

إنّ (التسليم عبارة عن الانقياد الباطنيّ والاعتقاد القلبيّ في مقابل الحقّ، ويقابل التسليم "الشك" وعدم الخضوع للحقّ، وعدم القبول)[37].

فالإنسان الواصل إلى درجة التسليم لله هو الإنسان المطيع لله تعالى طاعة مطلقة دون اعتراض وحرج، وهو علامة الإيمان بالله، قال تعالى:﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا  .[38]

بينما الذي يرفض التسليم والانقياد ولا يرضى بما حكم الله وقدّر، فمعنى ذلك أنه اتخذ ربّاً غير الله من حيث يعلم أو لا يعلم، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: يقول الله عز وجل: "من لم يرضَ بقضائي ولم يشكر لنعمائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربّاً سواي" [39].

وفعلاً فإن العاصي -وبالأخص المتجاهر بالفسق-صار عبداً للشهوات والهوى لا عبداً لله، قال تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] [40]، ومن أبرز مصاديق هؤلاء النسوة المتبرّجات -وإن سترن شعورهن بقطعة قماش- لأنهن يضعن المكياج على وجوههن ويركّبن الرموش أو الأظافر أو يرتدين الثياب الضيقة أمام الرجال الأجانب، وهذا دليل على ضعف إيمانهن بالله، لأن ثمرة الإيمان بالله الثقة به، والواثق هو المطيع غير المعترض ...

ألا ترون أننا لمّا نمرض ونلجأ لطبيب حاذق سنطيعه في كل ما يصفه لنا من علاج ودواء، ونسلّم أمرنا له في العملية ليفعل بنا ما يشاء، وذلك لثقتنا به ....

فهل يُعقل أن تكون ثقتنا بالمخلوق غير المعصوم أعلى من ثقتنا بالله الخالق الذي لا يوجب حكماً إلا وفيه جلب للمنفعة، ولا يحرّم حكما إلا وفيه دفع للمضرة!

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا عباد الله أنتم كالمرضى، والله رب العالمين كالطبيب فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب يدبّره به لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه، ألا فسلّموا لله أمركم تكونوا من الفائزين" [41].

ولنعلم أنّنا أمام خيارين لا ثالث لهما، أمّا أن نسلّم لأوامر الله فننال رضاه، أو نخالفها فننال غضبه، ونستحق عقابه، فوجب الحذر، فلقد روي عن الإمام علي عليه السلام: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المتسخط لقضاء الله"[42].


المبحث الثالث: شبهات وردود


من الضروري أن نطرح بعض الشبهات المتعلقة بالموضوع، ونردّ عليها لنكون على بصيرة من ديننا، ونحمي أنفسنا من السموم التي يبثها المخالفون، وهي كالآتي:


الشبهة رقم(1): إنّ العبارة التي قالها الإمام الحسين عليه السلام: (إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَراهُنَّ سَبايا)، يُفهم منها بأن هذه مشيئة إلهية مكتوبة علينا، والناس مجبورون عليها، إذن لماذا صار سبيهن ظلما وعدواناً وهي مشيئة إلهية؟!


إنّ المشيئة الإلهية في قول الإمام الحسين عليه السلام: (إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَراهُنَّ سَبايا ... وإِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلًا) لا تندرج تحت عنوان الجبر، فلا يتصور أحد أن الله تبارك وتعالى قد أجبر الحسين عليه السلام على القتل وأجبر عياله على السبي، وأجبر يزيد ومن معه على قتل الحسين عليه السلام فلا يمكنه التراجع عن قتله.

إنّ هذا التصور لا ينسجم مع عقيدة الشيعة الإمامية القائلة بأنه (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين) كما صرّح به الأئمة المعصومين عليهم السلام، ولتوضيح المطلب نقول: (هنالك تعبيرات في القرآن عن المشيئة والإرادة الإلهية تنتهي إلى أن لله إرادتين ومشيئتين:


الأولى: الإرادة التكوينية: وهي لا تتخلف فإن شاء شيئاً كان من غير معالجة، وإذا أراده تحقق ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [43]، ولتقريب المعنى ـ مع ملاحظة الفارق نقول: إن الإنسان لو أراد أن يتصوّر شيئاً في ذهنه، فلا يحتاج هذا التصور إلا إلى لمحة التفاتة فيحضر المعنى المتصوَّر في ذهنه فورا، فلو أراد أن يتصور بحراً أو شجرة أو غيرها، فإنه لا يحتاج إلى معالجات وإعدادات وإنما يكفي أن يتصورها ويوجّه ذهنه إليها في خلق الله للأشياء، يكفي أن يريد ذلك لكي يتحقق الموجود، ويصبح مخلوقاً خارجياً، وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه المشيئة والإرادة التكوينية فقال: ﴿...وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ...﴾ الأنعام/112، ﴿...وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ...﴾ البقرة/20، ﴿...إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ...﴾ الأحزاب/33.


الثانية: الإرادة التشريعية: وهي أن تتعلق مشيئة الله بفعل العبد، فهو لا يجبر العبد عليها وإنما يحثّه عليها تارةً ويزجره عنها أخرى بأوامره ونواهيه، ولا يقسره على فعلها ولا يجبره على تركها، وإنما يبيّن له بالرسل، ويهديه بالعقول، ويزوّده بالإرادة والاختيار لكي يختار ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾[44] ، وهي التكاليف الشرعية، وقد تحدّث عنها القرآن الكريم أيضا بلسان الإرادة الإلهية فقال ﴿...فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ... [45] ، و﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [46] ، و﴿... مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ... [47]. وهذه الثانية تبقي للإنسان مجال الاختيار، ولا يكون مسيّراً فيها إلى جهة برغم إرادته، وإنما يكون في كل حالاته مختاراً يستطيع الاستمرار ويستطيع التراجع، ومثل هذه الإرادة قول الإمام الحسين عليه السلام: (شاء الله أن يراني قتيلا، وشاء الله أن يراهن سبايا)[48].

نفهم من ذلك أنّ الفاعل الحقيقي لأي عمل هو الإنسان، فهو الذي يصنع القيام والقعود والمشي، فالاختيار بيده، وأما ما يتعلّق بالإرادة الإلهية فهي بمثابة المادة التي يستند إليها الإنسان في إحداث التغيير وفي إحداث العمل، أي أن الله تعالى يمدّ الإنسان بالقوة ليحقق اختياره من أجل اختباره، قال تعالى: [كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ] [49].

فلو أراد الإنسان أن يعمل عملاً سيئاً بأن يضرب بيده يتيماً أو يعمل عملاً صالحاً بأن يمسح بيده على رأس يتيم، فالاختيار بيده، ولكن يحتاج إلى من يمدّه بالقوة -وهو الله-ليقوم بذلك، ولكن إذا أجبره الله على ترك المعصية -كأن جعله مشلولا-فعندئذ لا يستحق الأجر، لأنه لم يتركه باختياره، وإذا أجبره على المعصية فلا يستحق العقاب، لأنه لم يعص باختياره، لكونه ظلم، [وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ][50].

إنّ السيد الخوئي (ره) في كتابه البيان في تفسير القرآن[51] عندما يتعرض إلى نظرية أهل البيت عليهم السلام في الجبر والتفويض (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)، يطرح هذا المثال الذي ننصح باستيعابه، ومضمونه يقول: لو كانت عندنا يد مشلولة لا تتحرك واستطاع طبيب أن يحرك هذه اليد المشلولة بأن يوصلها بطاقة كهربائية من خلال هذه الطاقة تتحرك هذه اليد المشلولة، فإذا افترضنا أن هذا الإنسان قام ووصل يده المشلولة بالطاقة الكهربائية وبدأ يحركها من خلال تلك الطاقة، فنحن نقول إن حركة اليد مصدرها الإنسان ولولا أن الإنسان أراد أن يحرك يده لما تحركت حتى لو وصل بالطاقة الكهربائية، لولا أن الإنسان أراد التغيير والحركة ما تحركت اليد، لكن في نفسه لا يمكن أن يحرك يده بدون طاقة.

إذن من هو المحرك لليد؟ من هو الفاعل الحقيقي لحركة اليد؟ الفاعل هو الإنسان، إذن ما المادة التي استند إليها الإنسان في تحريك يده؟ هي الطاقة الكهربائية. فالمحرك هو الإنسان والمادة هي الطاقة الكهربائية، وهذا معنى أن حركة اليد أمر بين أمرين لا تستند إلى الإنسان وحده ولا تستند إلى الطاقة الكهربائية وحدها بل حركة اليد تستند إلى محركية الإنسان وإلى مادية الطاقة، وكذلك في كل أعماله يقوم ويجلس لوحده لكنه يحتاج إلى طاقة، هذه الطاقة المبثوثة في جسمه مصدرها الله عز وجل.

فحركته مصدرها الإنسان وطاقته مصدرها الله عز وجل، وهذا معنى"لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين"[52].


شبهة رقم(2): هناك مقولة أخرى للإمام الحسين عليه السلام وهي: (إن الله حاميكن وحافظكن)، ولكنها تتعارض مع أخذهن سبايا، فكيف يمكن التوفيق بينهما؟


 الجواب: ذُكر أن الإمام الحسين عليه السلام، قال في وداعه للنساء: (استعدوا للبلاء، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شر الاعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء ويعوضكم الله عن هذه البلية أنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص قدركم).[53]

مع معرفة الغاية من سبي النساء في الزمن السابق يتضح لنا الوجه في كلمة الإمام الحسين عليه السلام على فرض صدورها .. فإن الملاحظ لحالات السبي في الزمان السابق لا سيّما بالنسبة للنساء، أن المرأة المسبية كانت تّتخذ لأحد أمرين في الغالب: إما الاستمتاع الجنسي أو الخدمة المنزلية، وقد يجتمعان في بعض النساء.


وهذا المعنى هو الذي جعل بعض القبائل العربية قبل الإسلام تقوم بوأد البنات خوفاً من أن يُسبين ويتعرضن للانتهاك بالمعنى المتقدم. بل بقيت في بعض القبائل آثاره إلى ما بعد الإسلام.

وبناءاً على هذا فإن ما حصل طيلة فترة السبي التي امتدت لأربعين يوما، سلكت فيها النساء مدناً وقرىً، وصحاري وأماكن بعيدة، ودخلن المجالس، ولم يتعرضن ـ مع توفر الدواعي ـ لأي شيء مما سبق ذكره، بل حتى لمّا أراد أحد أهل الشام أن يطلب واحدة من المسبيات: هب لي هذه الجارية! قالت له زينب: ما ذلك لك ولا لأميرك.

ولم يُقصد من كلام الإمام عليه السلام، أنهن لن يتعرضن للضرب، أو الأسر، فهذا المقدار هو مقوّم الأسر وإلا لم يكونوا قد أخذوهن لأجل أن يتفرجن ويتنزهن.

وبالفعل فقد حفظهن خالقهن كما سبق، وحماهن، وجعل عاقبة أمرهن إلى خير كما يلاحظ كل ناظر إلى النتائج التي ترتبت على ذلك السبي، من نصر الدين وإعلاء كلمة الله، وافتضاح أمر الظالمين، وانقلاب الأمر عليهم[54].


شبهة رقم(3): لو كانت عقيلة بني هاشم تملك تلك المنزلة الرفيعة عند الله لطلبت من الله تعالى أن يرفع عنها البلاء لتتخلص من الأسر والسبي؛ لكون دعاء المؤمن مستجاب عند الله!!!


ونردّ عليه بالنقاط الآتية:


أولاً: إنّ نفس هذا الإشكال يمكن أن يوجَّه إلى كل الأنبياء والرسل: لماذا لم يسألوا الله أن يرفع عنهم الابتلاءات، فأنّ دعاءهم مستجاب!!!

نقول: إنّ عدم رفع البلاء عن المؤمنين لا يدّل على ضعف إيمانهم ومنزلتهم عند الله تعالى وإلا استلزم منه ضعف إيمان الأنبياء والرسل، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إن أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل"[55].

إنهم متيقنون أن الله لمّا يريد أمراً فلا بد أن تكون فيه الحكمة والمصلحة، ورأيهم لا يعلو على رأي الله تعالى، فلذا لا بدّ من تحقيق المشيئة الإلهية، وهذا ما أرادته العقيلة عليها السلام.


ثانياً: من قال إنّ العقيلة لم تستعن بالله تعالى بالدعاء لرفع البلاء في بعض الموارد، ولم يستجب الله لها؟!

فأنّ كتب السيرة والمقاتل تذكر بأن الله قد استجاب دعاءها مرّات عديدة ...

 كيف لا وهي المظلومة المهضومة المسبية، ومعلوم أنّ دعوة المظلوم أنفذ من السهم، ونذكر هنا بعضاً من المواقف التي استجاب الله دعاءها سلام الله عليها:


1. روى أهل المقاتل: "أنّ شامياً تعرّض لفاطمة بنت أمير المؤمنين عليه السلام، فدعت عليه زينب سلام الله عليها بقولها: قطع الله لسانكَ، وأعمى عينيكَ، وأيبس يديكَ. فأجاب الله دعاءها في ذلك، فقالت سلام الله عليها: الحمدُ لله الذي عجّل لك بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة"[56].


2.إنّ امرأةً في الكوفة تسمّى (اُم حجام) أهانت رأس الحسين عليه السلام عند المرور به على قصرها، فدعت زينب على قصرها بالهجوم، فوقع القصر في الحال وهلك مَن فيه، وكانت هذه المرأة الخبيثة من نساء الخوارج [57].


3.ودعت على رجلٍ سلبهم في كربلاء، فقالت عليها السلام: قطعَ الله يديكَ ورجليكَ وأحرقكَ الله بنار الدنيا قبل نار الآخرة. فوالله ما مرّت الأيام حتى ظهر المختار وفعل به ذلك ثم أحرقه بالنار [58]. [59]

ثالثاً: إنّ عقيلة بني هاشم عليها السلام لم تدعُ الله برفع أصل الابتلاء برفع السبي والأسر عنها؛ لأنها تعلم أن هذا الأمر ظاهره قبيح جداً ولكن باطنه فيه حكمة ومصلحة عظيمة؛ قال تعالى: [وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] [60]، إنّ العقيلة تعلم أنها بصبرها على ذلك سوف تنصر الإسلام وستكشف عن حقيقة الطواغيت الجبابرة أمام كل الناس -كما ذكرنا ذلك خلال البحث-.

وأيضاً بصبرها سوف ترتقي سلّم الكمال بأعلى درجاته، ونفس الأمر يقال في حق الإمام الحسين عليه السلام، حيث (كان بإمكانه أن يرفع ما حلّ به من بلاءٍ من خلال الدعاء لكنه كان سيفقد درجة تكاملية لا تحصل إلا عن طريق الاستشهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى)[61]، روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) جاء للإمام الحسين عليه السلام وهو في منامه، فقال له: "...، وإنّ لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة"[62].

وروي أن حمران سأل الامام الصادق عليه السلام قائلا: "جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب، والحسن والحسين عليهم السلام، وخروجهم وقيامهم بدين الله عزّ ذكره، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم، والظفر بهم حتّى قُتلوا وغلبوا؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: يا حمران إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم ، وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار، ثمّ أجراه فبتقدّم علم إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله، قام علي والحسن والحسين، وبعلمٍ صمت من صمت منّا، ولو أنّهم يا حمران ،حيث نزل بهم ما نزل بهم من أمر الله عزّ وجلّ، وإظهار الطواغيت عليهم، سألوا الله تعالى أن يدفع عنهم ذلك، وألحّوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم، إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثمّ كان انقضاء مدّة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدّد، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبنّ بك المذاهب فيهم" [63].

إذن الدرسان اللذان نفهمها من قول الإمام الحسين عليه السلام "إِنَّ اللهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَراهُنَّ سَبايا " هما:

أولاً: إنّ للمرأة دوراً كبيراً في نصرة دين الله، بصبرها على تطبيق أحكامه وصبرها على الابتلاءات والمحن التي تواجهها.

وثانياً: ضرورة التسليم لمشيئة الله، ولنا أسوة حسنة ببنات الوحي والرسالة اللائي صبرن على عشرات المحن والمصائب في يوم عاشوراء، وفي أيام الأسر والسبي والتي ابتدأت رحلتها بعد يوم عاشوراء، في اليوم الحادي عشر من محرم الحرام، حيث قال السيد ابو طاووس في اللهوف: أقام عمر بن سعد بقية يومه -أي يوم عاشوراء - واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثم رحل بمن تخلّف من عيال الحسين عليه ‌السلام وحمل نساءه على أحلاس[64] أقتاب الجمال بغير غطاء ولا وطاء، مكتشفات الوجوه بين الأعداء وهن ودائع الأنبياء، وساقوهنّ كما يُساق سبي الترك والروم فمرّوا بهن على الحسين عليه ‌السلام وأصحابه وهم صرعى سائلة دماؤهم، مقطعة أعضاؤهم، معفرين بالثرى، مزمَّلين بالدماء، فبَكَين وصُحن: واحسيناه [65]:


(فائزي)

ريِّض يحادي الضعن خلنه انودع احسين

 

ما هيْ امروَّه يظل عاري ابغير تكفين

 

ما هي امروَّه انشيل عنه او ما نواريه

 

جسمه امرضض والترايب سافيه اعليه

 

نمشي بلا والي او والينه نخلّيه

 

بالضعن بالله خبّروني الگصد لا وين

 

ثم وجهت خطابها إلى المولى أبي عبد الله عليه‌ السلام:

(نصاري)

غدت زينب تنادي ابدمع جاري

 

يبو السجاد ودّعتك الباري

 

يخويه كتفوا ايميني اليساري

 

او بمتوني الحبل يحسين وسّم

 

مشينه اعله الهزل وامكتفينه

 

او خذونه ابهاليسر غصبن علينه

 

اوياكم نظل لو يحصل بدينه

 

لمن يحسين يلفينه المحتم

 

خويه اوداعة الله رحنه عنك

 

حسره اولا گضينه اوداع منك

 

مرونه عله جسمك اولنَّك

 

عاري امسلب امخضب امعفَّر[66]

 


إنّ الأمر الذي عصر قلوب بنات الوحي والرسالة في أثناء السبي والأسر هو سلب الخمور التي كانت على وجوههن ونظر الآخرين إليهن، قال التستري (رحمه ‌الله):

إنّ النساء من الكفار إذا أُسرن واستُرققن فإذا كن من بنات السلاطين فلا يعرضن على البيع في الأسواق ولا يوقفن في المجالس ولا تُكشف وجوههن كسائر نساء الكفار إذا استرققن، ولكن هلّم معي إلى سبايا آل محمد كيف عوملن من قبل القوم؟

قال الإمام الباقر: إنهم جاؤوا بسبايانا إلى الشام مكشّفات الوجوه، فقال أهل الشام ما رأينا سبايا أحسن وجوهاً من هؤلاء السبايا.

وأعظمُ شيءٍ أن ربةَ خدرِها

 

تَمُدُّ إلى أعدائها كفَّ سائلِ

 

تقول لشمرٍ والرؤوسُ أمامَها

 

وقد أحدقتْ بالسبي أهلُ المنازل

 

فلو شئتَ تأخيرَ الرؤوسِ عن النسا

 

وإخراجَها من بين تلك المحامل

 

ليشتغلَ النُظّار عنا فإننا

 

خُزينا من النظار بين القبائل

 

نعم، إن التفرج على بنات رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم مسألة آلمت قلوبهن حتى لقد ذكرت ذلك زينب في خطبتها في الشام إذ قالت ليزيد: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن... يتصفح وجوههن القريب والبعيد.

(نصاري)

او زينب گامت اتوجهت ليزيد

 

تگله ابمجلسك هاي الأماجيد

 

او حريمك بالخدر تخدمها العبيد

 

اشتگل لله او حبيبه ابيوم تحشر

 

سبايا ابمجلسك سادات الأكوان

 

وانته اعله العرش گاعد او فرحان

 

او راس احسين يهدونه على الزان

 

الك وانته بخيال الفتح مستر[67]

 




[1] بحار الأنوار -العلامة المجلسي -ج ٤٤ -ص ٣٦٤.

[2] كتاب الملهوف ص 53 -56. نقلا عن بحار الأنوار -العلامة المجلسي -ج ٤٤ -ص ٣٦٤.

[3] سنقف على ذلك تفصيلا في اليوم العاشر في هذا الجزء، فراجعوه.

[4] ريحانة/ reyhana.rafed.net/ الزينبيّات/ دور المرأة في واقعة الطّف/ دور المرأة في كربلاء(5)، دور الأسر والسبي-مؤسسة تراث الشهيد الحكيم-بتصرف.

[5] نفس المهموم. معالي السبطين ج2.نقلا عن مجمع مصائب أهل البيت ع-الشيخ الهنداوي-ج3-ص124.

[6] اللهوف لابن طاووس. مثير الأحزان للجواهري. ثمرات الأعواد للهاشمي. نقلا عن مجمع مصائب أهل البيت ع-الشيخ الهنداوي-ج3-ص26.

[7] اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس -ص ١٠٦.

[8] زينب الكبرى (عليها السلام) من المهد الى اللحد-السيد القزويني-ص407-484.

[9] البغي، هو الخروج على الإمام العادل، ونكث بيعته ومخالفته في أحكامه، وقتاله ومنع تسليم الحق إليه، قال تعالى بحقهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات/9]، وخير مصداق للبغي هي الطوائف الثلاث التي خرجت لقتال الإمام علي عليه السلام وهم الناكثون، والقاسطون، والمارقون.

[10][10] منهاج الصالحين-السيد الخوئي-من كتاب ال جهاد1: 390 (مسألة:60).

[11] الاحتجاج-الشيخ الطبرسي-ج1-ص 247، كنز العمال-المتقي الهندي-ج16 -ص 185.

[12] شرح السير الكبير-محمد السرخسي-ج-ص370، أحكام القرآن-ج3-ص534.

[13] ريحانة/ reyhana.rafed.net/ الزينبيّات/ دور المرأة في واقعة الطّف/ دور المرأة في كربلاء(5)، دور الأسر والسبي-مؤسسة تراث الشهيد الحكيم.

[14] تنقيح المقال-المامقاني-ج 3 -ص79.

[15] مقتل الحسين عليه السّلام-المقرّم-ص 371.

[16] زينب الكبرى -الشيخ جعفر النقدي -ص ٥٩.

[17] الخرائج والجرائح -الراوندي-ج 2-ص 122.

[18] الأنوار النعمانية -الجزائري-ج 3، ص 217.

[19] بحار الأنوار-المجلسي -ج 45-ص 140.

[20] عنوان الكلام-الفشاركي-ص118.

[21] تذكرة الشهداء-الملا حبيب الله الكاشاني-ص412. نقلاً عن كتاب مصائب آل محمد عليهم السلام-الشيخ محمد محمدي الأشتهاردي-ص462-464.

[22] شبكة الكفيل العالمية/ alkafeel.net/ معاناة ركب سبايا أهل البيت (عليهم السلام) في طريق الشام.

[23] مركز الأبحاث العقائدية/ aqaed.net/ الأسئلة والأجوبة العقائدية / زينب الكبری (سلام الله علیها)/ حضور السيدة زينب في كربلاء.

[24] الإمام الحسين (ع) -الشيخ عبد الله البحراني -ص ٤٠٥.

[25] من وحي الثورة الحسينية – السيد هاشم معروف الحسني-ص49-50.

[26] قرب الإسناد –عبد الله القمّي-ص 354 / 1268.

[27] قد يسأل أحدكم: وكيف عرف أن الله أراد ذلك؟، نقول: نحن نعلم إنّ الإمام معصوم ومسدد من قبل الله، وعلومه ربّانية؛ لأن الله يُظهرها لكل من يرضى عنهم ويرسلهم للناس، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحَدًا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الجن/ 26-27.

ووسائل اظهار علم الله لهم عديدة منها: الإخبار عن طريق المعصومين كإخبار الرسول ص وأمير المؤمنين ع للإمام الحسين ع، ولقد ذكرنا في بداية المحاضرة الحديث الذي دار ما بين الإمام الحسين عليه السلام وأخيه محمد بن الحنفية حينما طلب منه عدم الذهاب لكربلاء، (فقال له: أتاني رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا، .. إن الله قد شاء أن يراهن سبايا)، بل حتى العقيلة عليها السلام كانت تعلم بذلك منهم، فقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام أخبر ابنته زينب عليها السلام بما يجري عليها في الكوفة قائلاً: " وكأنّي بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد أذلّاء خاشعين، تخافون أن يتخطّفكم الناس، فصبراً صبرا..".هامش كامل الزيارات لابن قولويه القمّي ص 444.

[28] إبراهيم/37.

[29] مريم/23.

[30] العقائد الإسلامية/research.rafed.net/ أسئلة وردود/ كربلاء وواقعة الطف/ لماذا أخذ الإمام الحسين عليه السلام النساء والأطفال معه إلى كربلاء؟ -للشيخ محمّد السند.

[31] آل عمران/47.

[32] مؤسسة السبطين العالمية/ sibtayn.com/ أهل البيت عليهم السلام/ أصحاب أهل البيت علیهم السلام/ السيدة زينب (س)/ المكتبة/ الصديقة زينب (عليها السلام) شقيقة الحسين (عليه السلام) / السيدة زينب (ع) في موكب كربلاء.

[33] الذاريات/56.

[34] أهل البيت في الكتاب والسنة -محمد الريشهري -ص ٢٩١.

[35] الصافات/102-106.

[36] النساء/59.

[37] دراسات أخلاقية -الأخلاق المحمودة-نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

[38] النساء/65.

[39] البحار-المجلسي-ج 82 -ص 132 / 16.

[40] الجاثية/23.

[41] بحار الأنوار -العلامة المجلسي - ج ٨١ - ص ٦١.

[42] غرر الحكم: 3225.

[43] يس/82.

[44] الشمس/9-10.

[45] البقرة/185.

[46] النساء/26.

[47] المائدة/6.

[48] من قضايا النهضة الحسينية أسئلة وحوارات -فوزي آل سيف-ج1-98-100.

[49] الإسراء/20.

[50] فصلت/46.

[51] راجع: البيان في تفسير القرآن-السيد الخوئي -ص 88.

[52] موقع سماحة السيد منير الخباز/ المكتبة الصوتية والمرئية/شهر رمضان المبارك-1435 هـ/ هل نملك إرادة التغيير؟

[53] كلمات الإمام الحسين عليه السلام -الشيخ الشريفي.

[54] من قضايا النهضة الحسينية (أسئلة وحوارات) -فوزي آل سيف-ج1، نقلاً عن مكتبة الإمام الحسين -سؤال رقم(17).

[55] موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) -الشيخ هادي النجفي -ج ٢ -ص ٨٣.

[56] زينب الكبرى-القزويني-ص 66.

[57] عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآیات والأخبار والأقوال-عبد الله البحراني-ج11-ص976.

[58] تظلم الزهراء: 217.

[59] راجع كتاب: أعلام النساء المؤمنات -محمد الحسّون-ص 450.

[60] البقرة/216.

[61] مركز الأبحاث العقائدية/ aqaed.net / الأسئلة والأجوبة العقائدية / الإمام الحسين (عليه السلام) / لماذا لم يستعن بالدعاء على رفع البلاء.

[62] الأمالي -الشيخ الصدوق -ص ٢١٧.

[63] الكافي -الشيخ الكليني-ج ١ -ص ٢٦٢.

[64] الأحلاس: مفردها حلس بكسر الحاء والحلس كل مما يوضع ظهر الدابة تحت السرج او الرجل.

[65] اللهوف لابن طاووس. مثير الأحزان للجواهري. ثمرات الأعواد للهاشمي.

[66] مجمع مصائب أهل البيت عليهم السلام –الشيخ الهنداوي-ج3-ص25-27.

[67] مجمع مصائب أهل البيت عليهم السلام –الشيخ الهنداوي-ج3-ص42-43.

: مياسة شبع